يا له من مشهد سُرّياليّ يعجز العقل والفكر عن تفسيره! إنّه مرفأ بيروت الّذي لطالما كان محطّ أنظار العالم بأجمعه على مرّ العصور. للأسف، أصبح رمادًا متناثرًا شاهدًا على أكبر وأفظع الانفجارات في تاريخ البشريّة بعد هيروشيما وناكازاكي.
للوهلة الأولى يحسب المرء نفسه أمام فيلم هوليوديّ باهظ الإنتاج وعالي التّقنيّات ولكنّها للأسف بيروت محطّمة بكلّ ما للكلمة من معنى؛ والممثّلون ليسوا "دوبلير" يأتي بهم المخرج لأداء دورصعب ثم يرحلون، بل رحلوا الى الأبد تحت أنقاض البيوت: بيوت الصّيفي والجمّيزة و مار مخايل والمدوّر والأشرفيّة الّتي تشهد على تاريخ بيروت العريق وتراثها وتضمّ تحت قناطرها وعقودها آلاف الرّجال والنّساء والأطفال من لبنانيّين وأجانب اختاروا أن يعيشوا في هذه المدينة وفي هذه الأحياء الجميلة المتواضعة وأن يأكلوا في مطاعمها وأن يسهروا في حاناتها...
إنّها سخرية القدر! فالسّفينة الّتي كانت تقلّ السّوّاح منطلقة من بيروت عبر المتوسط غيّرت مسارها وقلبت بوصلتها رأسًا على عقب ورست نائمةً عند مرفأ بيروت تنتظر من ينتشلها وينتشل الأشلاء التي تناثرت في البحر من شدّة الانفجار الّذي سببته سفينة أخرى اختارت أن ترسو عند المرفأ نفسه قبل سنوات وتفرغ في عنابره آلاف الأطنان من الموادّ المتفجّرة.
أحيانا يعتقد من يرى صورة بيروت قبل
وبعد أنّها خدعة بصريّة أو "فوتوشوب" أراد الفنّان من خلالها أن يرينا صورتين متناقضتين لهذه المدينة العابرة للعصور، لكنّها واحسرتاه صورة حقيقيّة بعدسات المصوّرين والصحافيّين الّذين هرعوا لالتقاط المشهد الذي سيبقى في ذاكرتنا و ذاكرة العالم لفترة طويلة من الزّمن.
وحده تمثال المغترب اللّبنانيّ بقي صامدًا متحدّيًا عصف الكارثة رغم أنّه مواجه تمامًا للمرفأ و لموقع الانفجار. أهي رسالة بأنّ لا مفرّ لنا من الهجرة؟ أهو قدر اللّبنانيّ أن تدفعه المصائب لترك بلده رغمًا عنه؟ آلاف الأسماء والطّلبات تنتظر إجابة "نعم" من سفارات الدّول لتحمل حقائبها وترحل بل لتحمل لبنان في ذاكرتها وترحل...
كم هو صعب على المرء أن يرى مدينته على هذا الشّكل! خاصّة و أنّه شهد على إعادة إعمارها بعد الحرب الأهليّة وتفاخر بأنّها مدينة
للحياة تنهض مثل طائر الفينيق وتنفض عنها غبار الأزمات. كم هو مرير أن يشهد الإنسان على هذه الكارثة الّتي ألمّت ببيروت، مدينته الّتي أَحَبّ! عاصمة العواصم الّتي تغنّى بها الشّعراء والكتّاب العرب يقدر ما أحبّوها وفضّلوها عن سائر العواصم العربيّة والأوروبيّة.
ترى ما الّذي ينتظر بيروت بعد؟ بل ما الّذي ينتظر لبنان بعد؟ ألا يكفي ما عانيناه على مرّ عقود من الزّمن؟ ألا يحقّ لنا أن نرتاح في هذه البقعة من العالم؟ ألم يحن الوقت لنرى لبنان كما نتمنّاه؟ أترك الجواب لكم أيّها السّاسة. فإهمالكم وأنانيّتكم واستهتاركم بهذا البلد هو ما أوصلنا إلى ما نحن عليه! الرّهان على الأجيال الجديدة في التّغيير لربّما استطاعت ان تعيد لنا صورة لبنان الأسطورة الخالدة...
أميرة الحياة
بيروت بعد نهار الثّلاثاء في الراّبع من آب، لم تعد كما كانت. إذ شهدت العاصمة الانفجار الضخم في المرفأ الذي أودى بحياة مئة و تسعين شخصَا على الاقلّ و أصاب الآلاف بجروح و حوّل العاصمة الى "مدينة منكوبة".
لا يزال شبح الغموض يلفّ الانفجار الذي وقع في المرفأ و تسبّب بتغيير أجزاء واسعة من معالم المدينة، بعد مرور اكثر من شهر على وقوعه. أسئلة كثيرة لا تزال تطرح و لا اجابات واضحة عليها. فقد أدّت هذه الكارثة الى تشوّه الواجهات الزّجاجية للمباني و هذا ما بيّنته الصّور المفجعة الّتي لا يمكن لأيّ لبنانيّ أن ينساها. و كذلك، فقد أطلق على هذا الحدث لقب "بيروتشيما" تشبيها لما جرى لمدينة هيروشيما جرّاء الانفجار النّووي سنة 1945. و في الاطار ذاته، تظهر لنا الصّور الفرق الشّاسع في مرفأ بيروت قبل و بعد وقوع الكارثة. نتحدّث عن مدينة،عن عاصمة، تحوّلت فجأة الى ساحة حرب لكن بمشاهد أصعب و صدمة كبيرة.